تغار من نفسها

شاهدت يوما فيلما أجنبيا مثل فيلم اللي بالي بالك لمحمد سعد، يحكي عن سيدتان واحدة قصيرة بنية الشعر و الأخري شقراء فارعة الطول، قامتا بحادثة. و اضطر الطبيب المعالج نقل مخ السيدة القصيرة ذات الشعر البني الي الأخري و تمت العملية بنجاح. و عادت السيدة في جسدها الجديد الي بيتها و زوجها الذي كان يحبها بجنون و قد سعد بعودتها للمنزل حية حتي و إن كانت في جسد أخري. و لكن مع الوقت أصبح يبتعد عنها

، فهو كلما حاول لمسها شعر أنه يخون زوجته مع أخري و قفز من مكانه رغما عنه، و دائما مشغول في حجرة الكراكيب أو المخزن أو الجراج حتي يوما نام في المخزن فحين دخلت لتوقظه وجدته محتضنا أحد فساتينها القديمة و حوله صور كثيرة مبعثرة لهما معا، و كان الطبيب المعالج قد أمر أن تختفي كل هذه الأشياء لتتكيف مع شكلها و جسمها الجديد، فأخذت كل هذه الأشياء و رمتها حتي يراها و يشعر بوجودها و يحبها هي فهي ما زالت علي قيد الحياة، فهي أصبحت تغار من نفسها و ترفض شكلها القديم و تحاول أن تتعايش مع حياتها الجديدة و لكن حين علم زوجها أنها تخلصت من أشيائها القديمة ثار و غضب و تركها و بكي و اعتذر لها أنه لا يستطيع الاستمرار و إن كانت هي إستطاعت التعايش فهو لم يستطع. هو ما زال يحب زوجته القديمة بكل ما كان بها، يحب شعرها البني و عيناها البنيتين الدافئتين و لكن شكلها الجديد يخيفه، فهو يكره الشقراوات و يمقت العيون الزرقاء و يكره طولها الفارع الذي يلزمه كلما أراد تقبيلها أن يقف علي كرسي و كلما أراد محادثتها أن يرفع صوته و رأسه ليري وجهها.

فقلت حينها فيلما بفكرة غريبة صعب تحقيقها في الحياة إلا في حالات نادرة كتبها القدر لهما، و نسيته إلي أن أعادته إلي ذاكرتي صديقتان لي، كلا منهما غارت من نفسها و دمرت حياتها بيدها.

الأولي مادلين، سيدة متزوجة من ممثل معروف، ممثل غاية في الوسامة و الجاذبية، دائما تحيطه الشائعات إلي أن تزوجها فأصبحت تحيطه الفكاهات والنكات و الكاريكاترات، فهو حين تزوجها كانت بدينة جدا، و حين تسافر معه لحضور أحد المهرجانات كان يتعين عليه أن يحجز لها مقعدين، و دائما ما كانت تسمع سخرية الناس عليها و علي جسمها و تعجبهم عما أعجبه بتلك ليترك كل هؤلاء الحسناوات و يتزوج هذه البدينة.

و يوما قررت أن تتحقق منه قبل إتخاذ أية قرارات حاسمة في حياتهما، فسألته لماذا تزوجها، و بدأ يمتدح أخلاقها و نسبها و إخلاصها و حبها و تفانيها له، فحددت السؤال عماذا أعجبه في شكلها، فتبسم و احتضنها و قال لها في أذنها: “أحب جلدك، جلدك ناعم كالرضيع كلما لمسته شعرت أني في الجنة، ألمس أحد الحور العين فوصفهم مثل وصف جلدك، أشعر حينها أن جسمك كالمرمر أبيض شاهق البياض حتي أني أحيانا يخيل إلي أن أشعة الشمس تنعكس عليه لتزغلل عيني، جلدك مشدود و طري و ناعم أنا لا أشعر بسعادة سوي و يديكي تحيط بوجهي فأغمض عيني و أمتع نفسي بالحرير الذي يلامس وجهي”

فبكت و شعرت أنه يقول هذا لأنه يراها قبيحة بدينة، لا يعجبه سوي الجلد، لم يتغني مطرب قط بهذا، فالرجال يهيمون بالعيون، الرموش، الشعر، الخصر، الشفاة، ….، إلخ، أي شيء و كل شيء ما عدا الجلد!!

فشعرت أنه قال هذا فقط لكي لا يجرحها كأن لسان حاله يقول:”أنت كلك قبيحة دميمة لا يوجد بك شيء حسن سوي جلدك”، فقررت أن تقوم بعملية تدبيس المعدة حتي تصبح رشيقة جميلة يفتخر بوجودها بجانبه علي صفحات الجرائد و المجلات بدلا من أنها تسببت في إنخفاض شعبيته و نجاحه و نتج عن ذلك إعراض المنتجين و المخرجين عنه في الأونة الأخيرة.

فإستغلت فرصة سفره للتصوير بالخارج لمدة شهرين و قامت بعمل العملية، و بالفعل كانت مفاجأة له، و أصبحت هي أحد نجوم الصحافة و الفن و تصدرت صورها الجديدة صفحات الجرائد و المجلات و لكن حياتها الهادئة الدافئة التي كانت تعيشها مع زوجها أصبحت باردة مثلجة لا يقترب منها و لا يلمسها، فكلما فعل و لمس الجلود المترهلة في بعض أماكن جسدها و لاحظ فرق درجات لون الجلد في أماكن متفرقة في جسمها نتيجة للترقيع و خلافه، قطب حاجبيه و قام ليجوب المنزل و يفتح التلفاز.

حتي ذلك اليوم، تعاركت معه حين رأته في الدولاب يقلب ألبوم قديم لشهر العسل و الزفاف و يحسس بيديه عليها في الصورة و يقبلها، فثارت وهاجت و ماجت و قالت أنها فعلت كل هذا من أجله و أنها تحملت آلاما كثيرة حتي ترفع عنه الحرج و الخجل أمام الناس و يفتخر بوجودها بجانبه أمام الناس و في الصحافة، فأجابها بأنه لم يرد كل هذا، هو كان يحبها كما كانت، و طلب منها أنها لو استطاعت أن تعود كما كانت و يكون لها هذا الجلد القديم فلتعد و تركها بلا عودة!!

أما الصديقة الثانية نادية فهي كانت عكس مادلين، كانت خفيفة كالفراشة لا وزن لها تقريبا، و لكن مع الحمل و الانجاب و الطبخ و قد تركت نفسها للمحمرو المشمر و المحشي و الباشاميل و الحلويات فأصبحت بعد سنوات قليلة جدا تشبه الفيل الصغير، و كلما دخلت المطبخ تفعل شيئا خرجت لتجد زوجها إنفرد بنفسه في حجرة النوم يقلب صورهما أو يتفرج علي فساتينها القديمة أو خرج مع الأولاد ليشاهد أحد الأفلام التي سجلها لها بالفيديو وقت الخطبة و كتب الكتاب و أوائل الزواج.

كان سعيدا جدا معها و حبها حبا جما و لكنها مثل الفيلمين السابق ذكرهما، غارت من نفسها، حاولت الرجيم و لم تفلح و تخاف العمليات الجراحية، و لكن كلما حاولت الاقتراب منه شعرت أنه لا يراها، إنما يري الصورة العقلية التي رسمها لها، و لا يراها في الواقع، و لو لبست فستانا يشبه فستانا قديما كانت قد لبسته في شهر العسل مثلا، شعرت أنه يراها قديما ،في زمان و ترتدي ملابس زمان، فغارت و أحست أنه كأنه يحب إنسانة أخري، إنسانة موجودة بعقله فقط و تحتل كل قلبه و ليست هي.

فحين حكيت لها عن الفيلم بدلا من أن تتعظ، فعلت تماما كبطلة الفيلم، و أخذت كل شيء أيام ما كانت رشيقة من أفلام، صور، ملابس و خبأتهم في بيت والدها و حين عاد من العمل و لم يجدهم ثار ثورة عارمة، و بالرغم من أنها كانت إستعدت لهذا اليوم جيدا بإرتداء فستانا جديدا و تغيير لون و تسريحة شعرها و بالطبع بأكل متميز، إلا أنه رفض و غضب و حين واجههته أنها تشعرأنه لا يراها الآن بل يراها في الماضي، و هذا الشعور لا تحبه، فهي تشعر كأنه يحب إمرأة أخري و هي أمام عينيه، و أنه لابد أن يحبها علي هيئتها و شخصيتها الحاليتين لأنه أيضا شارك في تغيرها و وصولها لما آلت إليه الآن، فتسمر من كلامها و دهش و ظل يرقبها بعينين محدقتين و فاه مفتوح، فقررت أن تطرق الحديد و هو ساخن، فطلبت منه أن ينظر لها و يدقق و يقول صراحة إن كان لا يزال يحبها أم لم يعد يحبها، فقام و هو في ذهول و ظل يلف حولها، شعرت كأنه حقا يراها لأول مرة ، فقال بحسرة:”تصوري أني لم ألحظ تغييرك علي هذا النحو سوي هذه اللحظة!! ربما لأنك كنت تتغيرين أمامي، كانت التغيرات من يوم ليوم ضيئلة جدا لا تذكر، لم أكن أري سوي نفسك قديما، حين رأيتك أول مرة و ذهبت لأسألك عن أي شيء فقط لأسمع صوتك، و فاجئتني خدودك بإحمرارها و أنارت إبتسامتك وجهك و حياتي كلها من حينها، أنت محقة أنا لم أكن أراك، بل كلما تطلعت لوجهك تذكرت هذا الوجه الجميل الذي أسرني و لم ألحظ من حينها كيف أصبح وجهك الآن، و لم أر قط قبل هذه اللحظة التي نقف فيها هذه التجاعيد التي علت وجهك ولا هذا اللغد، و لا هذه الترهلات التي علت خدودك من كثرة أكلك و لا هذه الهالات السوداء من قلة نومك”، و بدأ ينظر لجسمها و شكلها بحسرة، و أجاب في حسرة و ندم:”لم فعلت هذا بي، لقد كنت أراك دائما كما رأيتك أول مرة، و كنت أحبك مثلما أحببتك هذه اللحظة التي خطفتي بها قلبي، و كان ما زال قلبي يدق كلما اقتربت مني مثلما دق ليلة زفافنا”، فوقع علي الكنبة المجاورة ووضع يده علي رأسه و هو ينظر للأرض من هول ما أدرك و قال،”لما جعلتني أراك الآن، لقد كنت أعيش حلما رائعا معك كل يوم، و أنت تشهدين أني لم أفكر بغيرك منذ أن وقعت عيني عليكي، لقد كنت أحبك جدا، لم جعلتني أفيق، لم جعلتني أراك الآن؟!لم غرت من نفسك؟!لم دمرت أحلي حلم كنت أعيشه معك و لك و لأبنائنا؟!”

فأجابت:”أبنائنا هم المشكلة، كلما تحدثت أنت عني أمامهم شعروا أنك تتحدث عن أخري؟؟!! هم من جعلوني أدرك أني تغيرت كثيرا من زواجنا للآن؟؟!!”

و وقعت جالسة بجانبه فإذا بالكنبة تصدر صوتا عاليا إزاء ذلك، و لأول مرة يتنبه لهذا الصوت حين تجلس بجانبه فالصوت كان دائما يحدث و لكنه لم يكن يسمعه، و سألها:”و ماذا تريدي مني الآن؟”

فأجابت:”أريدك أن تحبني علي ما أنا عليه الآن، لا أستطيع العودة بالزمن للوراء و لا أستطيع أن أكون مثلما كنت لنبدأ من جديد، حبني كما أنا”

فنظربحسرة و أجاب و قد أغرقت عينيه بالدموع كأنه سمع خبر وفاة حبيب:”لم فعلت هذا بي، لقد كسرت قلبي و حطمتيه، أنا لم أقصر معك، لقد ضيعت حياتي، آسف أنا لا أستطيع أن أحبك علي الحال الذي وصلت إليه الآن، حتي لو كنت أنا كما تدعين لي اليد العليا و السبب الرئيسي لوصولك لحالك هذه، لكني الآن أشعر أني أحببت و تزوجت من امرأة و أعيش مع أخري لم أحبها، لقد أدركت الآن فقط كيف تغيرت في الشكل و الطباع. كنت دائما أشعر بتغير طبعك و تبديله و لكني كنت أكذب نفسي و أسيطر علي عقلي بسبب حبك الذي كان بقلبي و أصر أن أراك بصورتك العقلية التي في رأسي و أكذب عيناي و أذناي.

و لكني أعدك ألا أقصر في واجباتي و لا أترك البيت و أعدك أني سأحاول أن أحبك علي حالك هذه، و لكن إلي أن يحدث هذا، لن أقصر في مودتي و لا رحمتي و لا قوامتي، و لكن لا تطلبين أكثر من هذا و لا تطلبي أن أسرع في مشاعري نحوك، دعي الأمور تأخذ مجراها”.

و سكت ثم إستطرد قائلا:”ليس أمامي خيار، أنا لم أحب غيرك، و لن أحب غيرك، و إن كنت لا أستطيع حبك الآن، لا زلت لا أستطيع تركك و لا ترك أبنائنا!!”

و لكنها قالت لي:”أنه بالرغم من أنه لم يسأل علي أشيائي القديمة قط مرة أخري منذ ذلك اليوم، و بالرغم من أنه وعد و لم يقصر في أي من واجباته نحوي و نحو أولاده، إلا أنه فقد إبتسامته إلي الأبد و أصبح يتكلفها و أشعر أنه يضغط علي أعصابه و نفسه لتستمر الحياة!!

إني أندم الآن علي ما فعلت، ليته ظل يحب صورتي التي كانت في رأسه، كان يفعل كل شيء بقلبه و كان دائما مرحا، الآن أصبح يفعل كل شيء حتي لا يقصر في شيء: تأدية واجب و ليس حب”

1 أكتوبر 2010

إنجي فوده

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.