الأب الصديق
في الكثير من البيوت المصرية تجد فكرة ” الأب البعبع ” هي السائدة، و أكثر جملة ترعب الطفل في هذه البيوت جملة: “هقول لبابا علي اللي انت عملته” فترتعد فرائص الطفل و يبكي توسلاً ألا يقول أحد لبابا !!!
طبعا في الأب الغائب و الأب المطنش و الأم الدبوس و غيرهم كتير بس اكتفيت المرة دي بالبعبع و قاذفة الشباشب، كفاية :)))
فحين كنت صغيرة و أري هذا المشهد و أكون لم أتعرف بعد علي هذا البابا المرعب، كنت أتخيله من حكايات الأطفال الذين بالمنزل رجل ضخم الجثة يشبه رامبو و حول صدره أحزمة كثيرة ليضرب بها هنا و هناك ويطول كلمن يحاول الجري أو الهرب !!
و الأعجب انه في مثل هذه المنازل تتخيل ان تكون الأم حنونة و رقيقة و ترفق بحال الأطفال مع هذا لأب الشرس، أليس كذلك؟ ليستقيم الحال و تتوازن الكفوف
و لكن عجباً أبداً بل تجد في العادة ” الأم قاذفة الشباشب ” أن أن أه !! بارعة في لقف الشبشب و بارعة في تصويبه علي الرأس مباشرة بمنتهي الخفة و السرعة مهما كان وزنها و مهما اختبئ الطفل تحت السرير أو الطاولة، يصيبه الشبشب كما لو كان به مغناطيس !!
لا حمداً لله والدي رحمة الله عليه كان يؤمن بفكرة ” الأب الصديق ” و كان ذلك العماد الأساسي في فلسفة تربيته إلي أقصي حد يتخيله أحد!!
لا أعلم إن كان قد ندم علي ذلك في أواخر أيامه أم لا؟! ندعو الله أن يكون لا 🙂
فقد كان مثلاً يسمح لأخي الأكبر أن يناديه باسمه مباشرة دون أي ألقاب : ” سمير” حتي في مقر عمله بالجامعة و أمام أي شخص، فهو كان دائماً يقول ان أخينا الأكبر هو أبينا الثاني و عليه فهو يعامله كأخيه الأصغر و ليس ولده!!
أما معي 🙂 فأنا :”بنت أبوها” :))
فأنا صديقته الصدوقة التي يتحدث معها في كل صغيرة و كبيرة بحياته و مستشارته الأمينة التي تجئ تتسحب لتنام في حضنه و “ترغي رغي لا نهاية له” ::))
كان يحكي لي مشاكل عمله، بل وصل الأمر حين كبرت و أصبحت في الصف الأول الثانوي، كنت حتماً و لابد أن أراجع جميع رسائل الماجستير و الدكتوراة التي يشرف عليها أو يناقشها قبل التسليم أو المناقشة و أصلحها لغوياً و أناقشه علمياً بها و أقيمها و أقول رأيي بها بصراحة و ان كانت تستحق الدرجة أم لا زال ينقصها شئ. و لا أستطيع أن أصف مدي فخره و سعادته بذلك، و كان يقولها فخراً أمامي أمام زملائه من الأساتذة فأجدهم منبهرون بذلك.
و كنت في تصحيح أوراق الإمتحنات أراجع ورائه الجمع، صحيح انه كان يراجعه عدة مرات و لكن وجود شخص آخر معه كان يشعره بالونس و الصحبة و يطمئنه ان شخصاً آخر لم تعتد عينيه الوريقات قد راجع معه الجمع.
و كان دائماً يقوم ببروفة المحاضرات معي، نعم كان عندنا سبورة بالبيت و كنت أجلس و أسأل و أعلق علي ما يقول، بالتأكيد كنت أسأل أسئلة مضحكة ضحلة علي قدر علمي حينها و لكنه أبداً عمره ما استهان بأسئلتي أو قلل منها بل كان يجيب عليها بمنتهي التركيز و الجدية حتي أمل و أتركه يعمل في هدوء دون إزعاج مني :))
بل كان يظهر دائماً التقدير و الإمتنان أني حاولت مساعدته في عمله.
في الصباح كنت الوحيدة التي تستيقظ مبكراً بالبيت، مبكراً جداً أحياناً كثيرة مع الفجر أو قبل شروق الشمس بقليل.
فيأخذني في حضنه و نُسَمِع أسماء الله الحسني التي نافسني في حفظها و انتصرت عليه و أنا صغيرة و حفظتها قبله ::))) -هذا ما كان يبدو لي علي الأقل :)- (للمنافسة هذه حكايات أخري مطولة 🙂 )
ثم نقرأ الأذكار “ورد اليوم” من كتاب الدعاء المستجاب للدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله.
و بعدها …. ننطلق :))
إما نطلع علي سطح البيت لنشاهد شروق الشمس أو نخرج بسيارتنا الفولكس الصغيرة الجميلة لنشاهد شروق الشمس علي النيل :))
ثم الإفطار إما نذهب للإفطار أو شرائه و نفطر بالبيت و شراء الجرائد و المجلات بالطبع
و كان أثناء إعداده للطعام أقرأ له عناوين الأخبار و المجلات و المقالات التي يراها مهمة
و بالطبع تسليتنا حينها لا موبايل و لا آي باد بل الرغي الرغي
كنا نتحدث في كل شئ و أي شئ، لم يكن يمل بكلامي و حكاياتي مطلقاً مهما أعدتها عليه
علماً أن والدي رحمة الله عليه كان له ذاكرة حديدية كالفيل 🙂 يكفي أن يسمع شئ مرة فيحفظه و يستطيع إعادة الحكاية بنفس مفردات قائلها دون تغيير حرف ؟!
و رغم حفظه لكل ما أقول إلا أنه كان دائماً يظهر لي أنه مستمتع بالحكاية كأنه يسمعها لأول مرة!!
منذ كنت صغيرة جداً، كنت أخرج من المدرسة جرياً و شوقاً لأبي لأحكي له بالتفصيل الممل…الممل جداً كل ما حدث باليوم منذ تركته حتي عدت إليه بما فيه ما شرحته المدرسات و ما قالوه بالنص حصة حصة 🙂
كان والدي رحمة الله عليه يسعده ذلك أينما سعادة، لم أكن أفهم حينها أنها مذاكرة دون أن أشعر فأنا أسمع كل ما قالته المدرسات بالضبط و هو لا زال حاضراً برأسي
و كنت أسأله عما لم أفهم أو أعرف و كان يشرح لي و نحن في طريق عودتنا للبيت بل أحياناً كنت أحل الواجب و أنا أحكي معه في السيارة في طريق عودتنا للمنزل و أنهي كل الواجبات قبل العودة للمنزل
و بالطبع كل ما كان يحدث من أحداث مع زملائي أحكيه بالتفصيل و والدي يحكم إن كنت أخطأت أم أصبت فيما قلته و عملته أنا و ما يجب عليّ فعله في اليوم التالي لإصلاح ما أفسدت أو يتدخل هو و مامي لذلك.
كان الشعارين اللذان يتبعان “الأب الصديق” هما “أنا صديقكم قبل أن أكون أبوكم، تذكروا ذلك دائماً” و “متخافوش مني أبداً مهما عملتوا، تعالوا قولولي مهما عملتوا، لأن تخبية الغلط بيجيب غلط أكبر، و لو عايزين تجربوا حاجة غلط جربوها قدام عيني ءأمن من انكوا تعملوها من ورايا”
و كان يضرب لنا أمثال كثيرة و قصص لا حصر لها بالطبع علي هذين القاعدتين:
١. كيف محاولة إخفاء الخطأ تولد خطأ أكبر
٢. و إذا أردتم تجربة الخطأ فلتجربوها أمام عيني، فذلك أكثر أمناً من أن تجربوها من خلفي مهما كانت
و أهم شئ هو “عدم الخوف منه” فلما أخاف منه و هو صديقي الذي أبوح له بكل أسراري و مشاكلي!!
(بالتأكيد لم يكن ذلك دائماً لطيفاً أو سهلاً كما يبدو و سيظهر ذلك مثلاً عندما جئت إليه بأول جواب غرامي أجده بحقيبتي أو بجواب إنذار بالفصل من المدرسة و أنا في الصف الثالث الثانوي، أو عندما يأتيه أحد من هم في مثل سني يتدحرج طالباً خطبتي و لكل حكاية نسردها فيما بعد ::)) )
الحكاية المباشرة التي أتذكرها الآن عن ان تخبية الخطأ تولد خطأ أكبر و سماحية تجربة للشئ أمامه هي : اللعب بالنار
نعم أنا و أخوتي و نحن أطفال كنا مغرمون بإشعال الكبريت و مشاهدت عود الثقاب حتي ينطفئ، و كان ذلك يغضب والدتي جداً و مُنعنا من ذلك، و في يوم وجدت علبة الكبريت فأخذتها و اختبأت في آخر غرفة بالبيت و بدأت ألعب و عندما وجدت دادي أمامي خفت و رميت العود، فقال: ها قلنا مفيش خوف، تعلمي انه خطأ و لذلك خفتي و لكن حين تريدين لعبها تعالي قولي لي، الآن كان من الممكن أن يشتعل البيت برميك لذلك الثقاب المشتعل
و فعلاً كلما أردت لعبها ذهبت له و تركني ألعبها أمامه
كانت أكبر مشكلة تواجهني شخصياً في حكاية الأب الصديق هي “الأصدقاء الآخرين” الذين هم من سني و الذي وصل بعضهم لحد “معايرتي” اني أقول كل شئ لأبي و لا أخفي عنه أي شئ
و حين عدت يوماً من المدرسة و أنا تقريبا في الصف الرابع أو الخامس الإبتدائي محبطة و محتارة فيما أفعل ءأحكي مثل كل يوم أم لا أحكي إرضاءاً لأصحابي
جلس معي أبي و أمي لمناقشة هذه القضية الخطيرة : “إنجي تعرضت للإرتباك و الحيرة و لا تعرف ماذا تفعل” يالل الهول!! :))
– إن أردتي ألا تحكي فلا تحكي
-و لكني أريد أن أحكي فهذا يسليني
و لكن لا لن أفعل حتي أرضي أصحابي
فمثلت والدتي أنها غضبت لأني أعتبرها ليست صحبتي و مثل أبي انه أحبط لمعرفته أني لا أعتبره صديقي و أحب أصدقاء المدرسة عنه و أفضلهم عليه رغم اني أعز صديقة له و يفضلني عن أنكل فلان الذي لازمه طوال حياته و أنكل علان العزيز
– خلاص خلاص متزعلوش هاحكي
فقال أبي : لا لا تحكي بل اسمعي هذه القصة
و حكي لي قصة جحا و ولده و الحمار
و كانت القاعدة الذهبية التي بُني علي أساسها بقية عمري
“اختاري بحريتك، الناس مستحيل إرضائهم و ليس عليكي إرضائهم بل عليكي إرضاء الله فقط. فلو ما تريدين فعله لا يغضب الله فلتفعليه، هذه هي الحرية حتي لو أغضب العفريت الأزرق لا يهم، طظ في الناس”
و قال : “انتي الآن صغيرة، و دنيتك صغيرة، أنا لا أسمع حكاياتك لأني أريد أن أسمعها بل هي تعتبر أشياء مملة و حكايات تافهة لمن هم في مثل سني، و لو سمعتها من طفل آخر كنت أكيد سأمل، ما يجعلها شيقة و مسلية هي أنتي إنجي هي التي تحكيها و ما يجعلني أسمعها هو أنك أنتي من يريدني أن أسمعها فأسمع كلامك و أصغي إليكي، أنتي ستظلي دائماً صديقتي التي أحكي لها حتي لو توقفت أنتي عن الحكي، أنتي من يجعل حياتي شئ خاص و مميز، سأكون دائماً موجود هناك في زاوية حياتك المظلمة حتي تحتاجيني و تناديني ستجدني أظهر للنور لأكون معك، أنا لا أكون سعيداً إلا و أنا معكم فأنتم معني حياتي و هدفها”
“افعلي ما تريدين أنتي فعله و ليس ما يريدك شخص آخر فعله بحجة أنه يحبك، فمن يحبك يترك لك حريتك لتختاري لا أن يقيدك، كما فعلنا نحن، لم نضغط عليكي لتحكي بل تركنا لك حرية الإختيار”
وتركوني أجلس لأفكر في ذلك و أحلله و أستوعبه و أختار بحريتي دون ضغوط
و كنت قد تعبت فنمت و لم أحك شيئاً و ظللت هكذا عدة أيام حتي فقدت شهية الكلام سواء بالبيت أو المدرسة حتي ظهرت نتيجة عدة إمتحانات و كنت أخذت الدرجات النهائية بهم فذهبت سعيدة جداً جداً و حكيت كل ما حدث باليوم و كيف احتفي بي المدرسات و كيف صفق لي الفصل
و كان آنذاك عادة جديدة بالمدرسة و هي تعليق شارات علي المريلة بألوان تميز الذي أخذ الدرجة النهائية من الذي نقص درجة و درجتين و كانت مريلتي ممتلئة بهذه الشارات ::))
شعرت حينها أن والدي كان أكثر من فرح و سعد و فخر بنجاحي، بالتأكيد بطريقة لا تقارن مع أصحابي بالمدرسة
و حينها جلست مرة أخري مع والدي و احتضنته كناية عن الإعتذار 🙂
فأخذني علي حِجره كالعادة و أفهمني لأول مرة درجات الصداقة و الفرق بين المعرفة و الزميل و الصاحب و الصديق
و لماذا هو دائما يقول الأب الصديق لأنها أعلي درجة و أقربها للنفس كأنه يحدث نفس و أن من يكون بهذه المنزلة لا يحتاج لكلام كثير ليفهم ما بصديقه بل يشعر به دون أي كلام
فهو يشعر بي دون أي حاجة للحكي أو الكلام
مع الأسف لم أستوعب كل هذا ” الحب” الذي يحتاجه الأب ليكون ” صديقاً قبل أن يكون أباً ” سوي بعد إنجابي لابنتي
و لكن الصديق لا يحتاج لكلام و الروح لا تفني فأنا أشعر انه يعلم حكاياتي كلها و انه يشعر بي و انه يعيش معي :))
“هاللو دادي، أرجو أن تكون أعجبتك هذه الحكاية عنك ::) و متزعلش بقي :))”
رحمة الله عليك يا والدي و أخلفك الله أهل أفضل مننا و مثلما من أدعيتك المفضلة
” اللهم ! اجعل في قلبي نورا ، وفي لساني نورا ، واجعل في سمعي نورا ، واجعل في بصري نورا ، واجعل من خلفي نورا ، ومن أمامي نورا ، واجعل من فوقي نورا ، ومن تحتي نورا . اللهم ! أعطني نورا ” .
أبدعت، رحم الله والدك! هي فعلا امور تنقص العديد في مجتمعنا مدعي الشرقية. وهي من اسباب انطوائية الافراد وسطحية العلاقات. وهذا مهم للشاب كما هو للبنت وربما أهم. يجب أن يتعلم الشاب الاعتماد على اشخاص ثقات يشاركونه حياته، كما يجب عليه أن يعلم أنه لن يستطيع مواجهة الحياة كلها لوحده!
شكرا جزيلا!
رحمة الله عليه…ربنا يعينا على تربية أولادنا و بناتنا في الزمن ده اللي كترت فيه الحاجات اللي بتاخد أفراد العيله الواحده من بعض. للأسف أغلب البيوت كل فرد في الأسرة مشغول في حاجه..الأب على اللاب توب بتاعه – الأم على اللاب توب بتاعها – الأبناء كل واحد على الأيباد بتاعه وهكذا. الموضوع بقا أصعب بس بقا برضه أهم من زمانا لأن برضه كمية و نوعية الأمور اللي ممكن الولاد يعملوها من ورا الآباء و الأمهات بقت أكتر و أدهى….ربنا يستر 🙂
كتابه رائعه يا إنحي – تحياتي ل هشام
رحمة الله عليه… شكرا يا انجي لمشاركتنا كل هذه الذكريات الجميلة التي تلهمني أنا وزوجي شخصيا مع أولادنا زنجتهد لأن نكون أفضل معهم … ربنا يوفقك مع أريج ويعيننا مع أولادنا يارب