أيام أظل أتابع و أتابع ما يحدث من تغيرات في حياتي و لا أفعل شيئا أكون فقط مشاهدة أو علي أفضل حال أكون مفعول به أنفذ ما أؤمر به لأن التغيرات تكون أكبر من استيعابي و عقلي أن يدركه
أكون طول الوقت مشدوهه و مأخوذه بما أري ،لا أستطيع التفكير أو الكلام أصبح حينها كالببغاء أكرر فقط ما أري و ما أسمع و عيناي دائما مفتوحتان علي مصرعيهما و محدقتان في كل شيء و أي شئ يحولان التقاط قدر ما يستطيعا، عليٍ أفهم شيئا
و لكني لا أفهم الا بعد مرور وقت طويل و لا أتكلم الا بعد هدوء الحياة و عودتها الي التكرار و الرتابة علي وضعها الجديد
هذه الايام كانت مثل ايام حرب العراق و الكويت كنت حينها تقريبا في الرابعة ابتدائي و ظللت مذهولة اياما عديدة لا اريد النوم محاولة فهم معني كلمة حرب و استيعاب كل هذا الخراب و الجثث و متابعة اخبار اصدقائنا الذين عادوا هربا بملابسهم و تركوا ورائهم كل ما يملكون حامدين الله انهم لم يفقدوا احدا منهم ،و قلق كل اصدقائنا علي اولادهم الذين في سن التجنيد ، و احاول استيعاب المذاكرة بالمنزل بدلا من المدرسة حين تم اغلاقها لفترة و قلق الناس مما قد يحدث في مصر و هل ستنقض اسرائيل علينا في هذه الاثناء بعد سفر الكثير من شبابنا و جيشنا للكويت و تصور هذا يحدث في مصر و انتظرت شيئا جسيما يحدث ما هو لا أعلم ربما كنت انتظر الحرب أو بمعني أدق كنت انتظرالموت
و لكن الأيام مرت و عادت لانتظامها و رتابتها و عدت للأكل والشرب و النوم و الكلام و الحياة كما طلبت الحياة أن تكون و لم يقف الزمن
ثم ثانية حدث هذا الشعور حين توفي والدي قبل امتحانات الثانوية العامة بأسبوعين و ثانية شدهت و سرحت و ظلت عيناي مفتوحة لا أفهم
لم أفهم حينها كيف لن أري والدي ثانية كيف لن أسمع صوته و لكني بدأت أتدارك و أفهم أسرع من الحالة الأولي
كنت أفهم كل مرة أضع الأطباق علي السفرة كمثل كل يوم، خمسة أطباق ثم أصحو من غفوتي و أسحب الطبق الخامس لأعود به علي المطبخ و أنا دموعي تبلل خدي فأمسحها سريعا قبل أن يراها أحد من أسرتي، كنت أفهم كل مرة أستيقظ بها في الصباح الباكر و أنده كعادتي:”دادي دادي دادي” ثلاث مرات فلا أجد أحد يجيب و لا أحد يفتح باب الحجرة ليدخل لينام بجانبي في السرير لنقرأ معا ورد اليوم من الدعاء المستجاب فأخرج من حجرتي لأجد الكل نائم و أنا وحدي فأعود و أطفئ النور و أتغطي و أغمض عيناي و أبكي وحدي ،و أتذكر خروجي مع والدي باكرا قبل أن يستقظ أحد للذهاب للتنزه علي النيل و الفطور وحدنا في العربة أو الطلوع علي سطح المنزل لمشاهدة شروق الشمس بعد صلاة الفجر، أشياء قد يراها الناس صغيرة و تافهة و لكنها بالنسبة لي كانت الحياة.
حين توفي لم يراني أحدا أبكي بل رأي الجميع فتاة صلبة عنيدة كنت أعاند كل من يشفق علي و أتغطرس عليه و اعامله باستعلاء كريه ،و لم أقابل الذين أتوا للعزاة فأنا رأيت ناس لم أعرفهم قط يبكون بحرقة ، فعرفت أن كل يبكي ذكرياته و آلامه، و لا أحد يهتم معرفة ما يؤلمنا نحن، فقررت ألا أسمح لأحد أن يتحكم بمشاعري و يجعلني أبكي وقتما يقرر البكاء ،و تأكدت أني علي حق حين رأيتهم يمطون شفاههم حين سمعوا بنجاحي الباهر في الثانوية العامة و اتهمني الجميع بأني لم أكن أحب والدي لأني استطعت أن أركز في امتحاناتي و والدي قد توفي. لقد أضعت عليهم فرصة ثمينة للبكاء ثانية و الشعور بالحسرة و مد يد العون، فتجاهلتهم أكثر فهم لا يفهمون أنه ما زال حيا فأنا لم أكن فهمت بعد معني الموت و أقنعت نفسي أنه مسافر و سيعود و كنت أراه في البيت و أراه في أحلامي طوال الليل
و هم أيضا لا يفهمون أهمية الدرجات و التفوق في المذاكرة له و لا يقدرون كم ضحي و تعب من أجل ذلك و كيف سيكون عمره قد راح سدي لو كنت رسبت بامتحاناتي و كم سيتألم لذلك، ثم هم ليسوا مهمين هو من يهمني و هو دائما يشعر بي حتي لو لم يشعروا هم.
و ثانية ظللت أنتظر حدوث شيء ما و لكني كنت أعلمه هذه المرة أنا حقا كنت أنتظر الموت حينها و لكنه لم يأت
كان الجميع ينتظر وفاتي أنا، لأني كنت مريضة حينها و طريحة الفراش لشهرين قبلها و لكنه أخذ والدي و لم يأت بعد لأخذي
و الأيام مرت و عادت لانتظامها و رتابتها و عدت للأكل والشرب و النوم و الكلام و الحياة كما طلبت الحياة أن تكون و لم يقف الزمن
ثالثة تكررت هذه الحالة حين قامت ثورة الياسمين في تونس فظللت أتابع كل ما يحدث و أكرر كلما أسمع و أنا لا أفهم كنت مترقبة و خائفة و سعيدة و حالمة مشاعر كثيرة متداخلة و متناقضة
كنت أترقب ما يحدث هناك و، في مصر، من صدي ذلك،
كنت خائفة من تدخل الجيش مع الشرطة و قتل الملايين لردعهم لتجرئهم علي الرئيس الطاغي الذي أنزل الجيش فعلا لأنه مل سماع المظاهرات في الشوارع لمدة شهر، و هم لا يتعبون و لا يسأمون و لا يفقدون الأمل من التظاهر و لا يشعرون أنه لا جدوي مما يفعلون و لكن حمدا لله خذله الجيش و بدلا من القيام بمذبحة لتأديب هذا الشعب الذي جن جنونه و فقد عقله، خذل الرئيس المتعجرف و أنقذ الشعب من التهلكة
ما زلت أترقب و أدعو أن يخلف لهم حاكم عادل يخاف الله و ألا يختاروا طاغية آخر و مستبد جديد
و سعيدة أنه ظهر أمل واضح و جلي و انكسر الخوف من الموت و من الطغاة و من الصمت الذي أطبق علي أنفاسنا سنوات كثيرة
سعيدة بتنفس الحرية و احساس الانتعاش الذي تهلل في وجوه الناس أجمع
و حالمة لما قد يحدث في مصر و بدأت أدعو من عميق قلبي و ترقبت تغير سريع قد يحدث و حلمت شيئا كهذا قد يبدأ بعد التجمع الذي حدث أمام سفارة تونس و ظننت أن هذه قد تكون هي البداية و لكن …….
و الآن أعد الأيام ليوم 25 يناير و لكن ان شيئا ما حدث في هذا اليوم سأظل أحلم و يقينا داخليا ان الله لن يخذلنا
سأحلم أن كل واحد يعيش في بيوت فسيحة و جميلة و الكل يأكل أكلا شهيا و يعمل و يجد وقتا لأسرته لا يعمل ليل نهار ليمنعهم ذل السؤال قدر الامكان و أننا نستطيع العودة للتمتع مع عائلاتنا و أصدقائنا دون الغربة و يكون بامكان الجميع شراء ملابس و أكل و كتب و تعليم و لعب لأبنائهم و ….أن يعيش الجميع يعيشوا كآدميين
و لكني لا أستطيع الذهاب للمظاهرة للمطالبة بكل هذه الأحلام لأني زوجي يخاف علي ابنتي من هذا البرد الذي أصبح كالسكاكين التي تنخر في أجسادنا و ما زال النقاش مستمرا حتي اليوم المترقب لنري ما سيكون
و بدأت أتفكر و أتعجب فربما كل بيت فيه من يريد المظاهرة و لكن هناك من هو أقوي منه و يمنعه لأنه خائف من سبب أو لأخر
فهناك من يخاف ترك الامتحان و هذا يخاف ترك العمل و هنا و هناك من يخاف
فحتي لو لم يحدث شيئا جماعيا بعد فبالتأكيد هناك حرية نبعت في القلوب و الأرواح و التغيير قادم ان شاء الله
و الأيام مرت و عادت لانتظامها و رتابتها و عدت للأكل والشرب و النوم و الكلام و الحياة كما طلبت الحياة أن تكون و لم يقف الزمن
21 يناير 2011
انجي فوده
رائع